الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وبعد:
فإن تأهيل النفس هو أساس كل تأهيل، فإذا كانت النفس زاكية حيية نفعتها أدنى توعية باستثمار طاقتها، ورضيت بما تيسر من الكسب، وحرصت على أن تبقى لها عزتها وكرامتها.
وقد وعى العاملون في العمل الخيري هذا الجانب، وأولوه اهتمامهم، وأصبح تأهيل المستفيد من أولويات الجهات الخيرية.
أصل التأهيل وغايته:
بعد البحث الميداني وسبر أحوال المستفيدين وجد أن أصل التأهيل والغاية منه تكمن في حفظ ماء الوجه.
أولا: إذ إن من أراق دم وجهه وامتهن المسألة –سواء عن طريق الأفراد أو الجهات الخيرية- استمرأ هذا العمل واعتبره مهنة له، فيصعب عليه تركها والتحول إلى العمل والاحتراف، وليت الأمر اقتصر على رب الأسرة فقط!، بل إن هذه المهنة انعكست بالذلة والمهانة على سائر أفراد الأسرة من بنين وبنات!.
ونحن حين نهمل شريحة المحتاجين –ونغفل عنهم حتى نلجئهم إلى المسألة ومراجعة الجهات الخيرية بطلب المساعدة –تكون قد ساهمنا في تسهيل مهنة التسول!، وتعمدنا إراقة ماء وجه المحتاج!؛ فإن الملاحظ أن كل محتاج يقدم إلى جهة خيرية لأول مرة بطلب المساعدة تجده غالباً متنكرا متلثما مستحييا، ومرة بعد أخرى تزول عنه تلك الصفات، ويصبح ممتهنا التسول! ولا يهمه من يراه في الجهات الخيرية.
ولقد جاءت نصوص الشريعة بالترغيب في إخفاء الصدقة، والستر على الفقير، قال الله تعالى: (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271))(1)
فإن الآية أولت أهمية إخفاء الصدقة على الفقراء، وأنه مقدم على إعلانها(2).
ورتب على إخفاء الصدقة فضل عظيم، ودرجة رفيعة، حيث نال صاحبها صحبة السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، فقال صلى الله عليه وسلم: ((سبعه يظلهم الله تعالى في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عدل وشاب نشأ في عبادة الله ورجل قلبه معلق في المساجد ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه))(3).
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ((والله ليأتين الراعي في اليمن حقه من هذا المال ودمه في وجهه)).
وكان عمل السلف الوجه التطبيقي والعملي لهذه النصوص، فعلي بن الحسين –رحمه الله- لم يعلم أهل المدينة بأنه هو المتصدق على بيوتات الفقراء حتى مات؛ إذ كان يأتيهم ليلا خفية فيضع الطعام على عتبات أبوابهم!.
وعامر بن الزبير –رحمه الله- كان يضع الدنانير في أحذية القراء وهم يصلون، فلما سئل لم لا تعطيهم بنفسك أو ترسل بها خادمك؟ قال: ((أخشى أن يلقاني أحد منهم فيتمعر وجهه)).
وقد وقع لبعض تجار الأندلس لما غلت الأسعار جاءه الناس يسألونه فقال: (خذوا بالدين)، فلما أخذوا أسقط عنهم الديون في ما بعد!، فلما سئل قال: أخشى أن يأنف بعض المحتاجين من الصدقة!.
فهو يريد أن لا يحرج صاحب المروءة، ولا يأخذ غير المحتاج؛ لأنه بيع، ولا يأخذ أكثر من حاجته؛ فهو دين عليه.
وقال سعيد بن العاص لابنه عمرو: ((يا بني أخزى الله المعروف إذا لم يكن ابتداء عن غير مسألة، فأما إذا أتاك تكاد ترى دمه في وجهه مخاطرا لا يدري أتعطيه أم تمنعه فو الله لو خرجت له من جميع ما تملكه ما كافأته))(4).
أين هذه النماذج المشرقة عما يقوم به بعض العاملين في الجهات الخيرية من إراقة مياه وجوه المحتاجين، فأي إراقة لماء الوجه أشد من ممارسة بعض الجهات الخيرية للتصوير أثناء تسليم المعونات والمساعدات للمستفيدين، وحفظ تلك الصور في أرشيفها؛ فإن بقاء تلك الوثائق في الإرشيف –فيما أراه- عار على الفقير وعلى ذريته من بعده!.
والملاحظ أن الجهات الخيرية تعرف المستفيد بأنه: (من تقدم للجهة الخيرية بطلب مساعدة)، وهذا هو المتسول المنظم.
والذي اقترحه على الجهات الخيرية، أن تتعامل بهذا الشعار ((الفقير نعرفه ولا يعرفنا، نأتيه ولا يأتينا))، وفي هذا حفظ لماء وجه الفقير، ولا شك أن هذا يتطلب عددا من الباحثين المتطوعين.
وسائل التأهيل:
لم يعرف المجتمع المسلم البطالة في عموم تاريخه!؛ حيث هيأ النفوس ورغبها في العمل والاحتراف وفتح للمسلم جميع أبواب العلم وألغى جميع القيود والشروط عليه ما دام العمل حلالا في نوعه أو طريقة كسبه، وإن العالم اليوم بحاجة ماسة إلى قراءة التاريخ الإسلامي في جانبه العملي والحضاري؛ لتستخلص تلك الأساليب والوسائل التي غدا معها كل فرد في المجتمع الإسلامي عاملا ومنتجا، لا يعرف الاعتماد على الآخرين، ولا يخطر بباله أن يترك العمل ليمد يده إلى غيره، حتى وجد في بعض مدد استغناء تام عن الزكاة.
ومن الاستقراء السريع للمنهج الإسلامي تبين لي أن هناك وسائل مباشرة ووسائل غير مباشرة في تهيئة المجتمع للعمل عامة.
الوسائل المعنوية أو غير المباشرة:
قرر الإسلام وسائل كثيرة كانت بمثابة تهيئة المجتمع كله للعمل حتى لا يبقى عاطل إلا من كان عاجزاً قد أعاقه المرض أو الشيخوخة.
ومن تلك الوسائل:
• أولا: التشديد في منع المسألة وتقبيحها والتغليظ على من امتهنها.
ولم يأذن فيها إلا في ثلاث حالات مؤقتة: عن قبيصة بن مخارق الهلالي قال تحملت حمالة فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله فيها فقال: ((أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها)) قال ثم قال ((يا قبيصة إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش أو قال سدادا من عيش ورجل أصابته فاقة حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجا من قومه لقد أصابت فلانا فاقة فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش أو قال سدادا من عيش فما سواهن من المسألة يا قبيصة سحتا يأكلها صاحبها سحتا يأكلها صاحبها سحتا))(5).
وقال صلى الله عليه وسلم: ((لا يفتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر))(6).
وعن يحيى بن أبي كثير: أن رجلا أتى ابن عمر فسأله، فقال: ((إن كنت تسأل في دم مفظع، أو غرم موجع، أو فقر مدقع، فقد وجب حقك، وإلا فلا حق لك)). قال: ثم أتى الحسن بن علي فقال له مثل ذلك(7).
وعن عروة، عن أبيه، عن عبيد الله بن عدي بن الخيار، أنه حدثه رجلان، فحدث عنهما قالا: جئنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع؟، والناس يسألونه الصدقة، فزاحمنا عليه الناس، حتى خلصنا إليه، فسألناه من الصدقة فرفع البصر فينا وخفضه، فرآنا جلدين، فقال: ((إن شئتما فعلت، ولاحظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب))(8).
وعن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من أحد يسأل مسألة وهو عنها غني إلا جاءت يوم القيامة كدوحا، أو خدوشا، أو خموشا في وجهه. قيل: يا رسول الله، وما غناه أو ما يغنيه؟ قال: خمسون درهما، أو حسابها من الذهب(9).
وقد ذكر بعض الفقهاء أن من حق ولي الأمر أن يؤدب كل صحيح قادر على التكسب يريد أن يعيش عالة على الآخرين وهو يجد عملاً(10).
• ثانياً: الحث على الاحتراف والعمل والترغيب فيه:
عن الزبير بن العوام رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمة الحطب على ظهرة فيتبيعها فيكف الله بها وجهه خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه))(11).
كان محمد بن سيرين إذا أتاه رجل من العرب قال له: ((ما لك لا تتجر؟ كان أبو بكر تاجر قريش))(12).
وعن عائشة قالت: ((كان أبو بكر من أتجر قريش حتى دخل في الإمارة))(13).
وقال عمر بن الخطاب: ((يا معشر القراء ارفعوا رؤوسكم فقد وضح الطريق، فاستبقوا الخيرات، ولا تكونوا عيالا على المسلمين))(14).
وقال سعيد بن المسيب: ((كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتاجرون في بحر الروم، منهم طلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل))(15).
وعن الهيثم بن جميل قال: قلت لابن المبارك: ((أتجر في البحر؟ قال: اتجر في البر والبحر، واستغن عن الناس))(16).
وعن ابن عمر قال: ((إذا لم يرزق أحدكم في البلد، فليتجر في بلد غيره))(17). ولقي رجل الحسن بن يحيى بأرض الحبشة، معه تجارة، فقال له: ((ما الذي بلغ بك هاهنا؟ فأخبره، فعذله الرجل، فقال: أكل هذا طلب للدنيا، وحرص عليها؟ فقال له الحسن: يا هذا إن الذي حملني على هذا كراهة الحاجة إلى مثلك!))(18).
وقال عمر بن الخطاب: ((إني لأرى الرجل فيعجبني، فأقول: له حرفة؟ فإن قالوا: لا، سقط من عيني)).
ولقد أثر هذا الترغيب على جميع الأمة حتى انخرط رموزها وعظماؤها في الاحتراف والعمل لكسب الرزق، ونسب جمع من عظماء الأمة وعلمائها إلى المهن فكان منهم: القفال، الزجاج، الخراز، الجصاص، الخواص، الخياط، الخباز، الصبان، القطان، البزاز، النجار، الحذاء، السمان، الصواف، الخراز، الزيات، الفراء...
إن انتساب هؤلاء العلماء الأجلاء للحرف أعطى صبغة العزة للحرف جميعا، حتى لم يكد يوجد في المجتمع الإسلامي من ينتقص الحرف أو يصغر من شأن أصحابها، ولعل هذا من الأسباب المباشرة التي أدت إلى انخراط ع امة الأمة في العمل والكسب.
• ثالثاً: الحث على حسن التدبير والاقتصاد في المعيشة:
ليست مشكلة الفقراء في عدم الكسب، أو ضعف الموارد وقلة الدخل فقط، بل تجد كثيراً من ذوي المسكنة والفقر قد امتلك يوما من الأيام أموالا كثيرة، أو له كسب لو كان عند غيره لكفاه، ولكنه يعاني من سوء التدبير وضعف التوزيع أو الإسراف، ومن هنا جاء الإسلام حاثا على حسن التدبير والرفق في المعيشة، ومشددا على الإسراف والتبذير والإغراق في الكماليات، وراسما برامج عملية في الاقتصاد وتوجيه المال وتنظيمه.
فهذا أحد كرماء الإسلام وعظمائهم وشجعانهم وهو قيس بن سعد بن عبادة التاجر المشهور، يضرب أروع الأمثلة في تدبير المال، وذلك أنه أتاه قوم فسألوه حمالة، فرأوه في حائط له يلتقط التمر والحشف، ويميز كل واحد على حدة، فقالوا: ما عند هذا خير!، ثم كلموه، فقضى حاجتهم، فقالوا: ما أبعد هذا من فعلك الأول؟ فقال: ((إنما أعطيكم من هذا الذي أجمع))(19).
عن عبد الله المزني قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا اشترى أحدكم لحما فليكثر مرقته، فإن لم يصب لحماً أصاب مرقاً))(20). عن سالم بن أبي الجعد أن رجلاً صعد إلى أبي الدرداء، وهو يلتقط حنطة، فقال: ((إن من فقهك رفقك بمعيشتك))(21).
وقال عمر: ((أيها الناس، أصلحوا أموالكم التي رزقكم الله عز وجل، فإن إقلالا في رفق خير من إكثار في خرق))(22).
وفي المسند عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما عال مقتصد)(23). وعن عائشة: ((لا جديد لمن لا خلق له))(24).
وقال عمر بن الخطاب: ((كفى بالمرء سرفا أن يأكل كل ما اشتهى))(25). وعن عبيد الله بن حميد قال: ((مر جدي على عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعليه بردة فقال: بكم ابتعت بردك هذا؟ قال: بستين درهما. قال: كم مالك؟. قال: ألف درهم. قال: فقام إليه بالدرة، فجعل يضربه ويقول: رأس مالك ألف درهم، وتبتاع ثوبا بستين درهما؟ رأس مالك ألف درهم، وتبتاع ثوبا بستين درهما؟!))(26).
وينبغي أن يوضع منهج للموازنة بين الدخل والصرف، ويربى عليه الناس لاسيما الشباب.
• رابعا: الحجر:
جاء الشرع بالمحافظة على المال صيانة له من فساد ملاكه، ولحقوق الناس عند إفلاس المديونين، وهذا من عناية الشرع بمقاومة الفقر، فبالحجر على السفيه يوقى من إضاعة ماله ويحمي من الانتقال من الغنى إلى الفقر. قال تعالى: (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم)، جاء عن جماعة من السلف أن السفهاء في هذه الآية هم النساء والصبيان، وعن آخرين هم النساء خاصة، وقيل هم الصبيان واليتامى قال الطبري رحمه الله: ((والصواب من القول في تأويل ذلك عندنا أن الله جل ثناؤه عم بقوله: (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم)، فلم يخصص سفيها دون سفيه، فغير جائز لأحد أن يؤتي سفيها ماله صبيا صغيرا كان أو رجلا كبيرا، ذكرا كان أو أنثى، والسفيه الذي لا يجوز لوليه أن يؤتيه ماله هو المستحق الحجر بتضييعه ماله، وفساده، وإفساده، وسوء تدبيره ذلك))(27).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من أدرك ماله بعينه عند رجل أو إنسان قد أفلس فهو أحق به من غيره)(28).
وقال البخاري رحمه الله: (وقال مالك إذا كان لرجل على رجل مال وله عبد لا شيء غيره فأعتقه لم يجز عتقه، ومن باع على الضعيف ونحوه فدفع ثمنه إليه وأمره بالإصلاح والقيام بشأنه فإن أفسد بعد منعه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن إضاعة المال)(29).
الأساليب المباشرة في التأهيل:
فتحت الشريعة طرق الكسب: لتشغيل المجتمع والقضاء على الفقر حتى وصلت الأمة في طول البلاد وعرضها –من أوروبا غربا إلى حدود الصين شرقا- إلى أن يحمل أحدهم هم صدقته! كيف يجد من يأخذها منه؟، كما وقع في عهد عمر بن عبد العزيز. وإليك بعض هذه الطرق:
• أولا: تعريف المرء بطاقاته وفتح آفاقه على أبواب الكسب:
فقد تغلق في عين الإنسان أبواب الرزق ويظن أن لا جدوى في العمل والاحتراف فيلجأ إلى المسألة، ولقد أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم درسا عظيما في هذا الشأن. عن أنس بن مالك أن رجلا من الأنصار أتى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله فقال: ((أما في بيتك شيئ؟ قال: بلى حلس(30) نلبس بعضه ونبسط بعضه، وقعب(31) نشرب فيه من الماء، قال: ائتني بهما، قال: فأتاه بهما، فأخذهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده وقال: من يشتري هذين؟ قال رجل: أنا آخذهما بدرهم، قال: من يزيد على درهم؟ مرتين أو ثلاثا قال رجل: أنا آخذهما بدرهمين، فأعطاهما إياه وأخذ الدرهمين وأعطاهما الأنصاري وقال: اشتر بأحدهما طعاما فانبذه إلى أهلك، واشتر بالآخر قدوما فأتني به، فأتاه به فشد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عودا بيده ثم قال له: اذهب فاحتطب وبع ولا أرينك خمسة عشر يوما، فذهب الرجل يحتطب ويبيع فجاء وقد أصاب عشرة دراهم فاشترى ببعضها ثوبا وببعضها طعاما فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا خير لك من أن تجيء المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة إن المسألة لا تصلح إلا لثلاثة لذي فقر مدقع أو لذي غرم مفظع أو لذي دم موجع))(32).
ففي هذا الحديث دلائل كثيرة، منها أنه صلى الله عليه وسلم لم يعالج مشكلة السائل المحتاج بالمعونة المادية الوقتية، ولم يعالجها بالوعظ المجرد والتنفير من المسألة، ولكنه أخذ بيده في حل مشكلته بنفسه، وعالجها بطريقة شريفة ناجحة. وهذا ما يسمى: تهيئة بيئة العمل.
• ثانيا: أعطى الفقير امتيازات في المصالح العامة دون الغني:
وفتح له أبواب العمل أكثر من غيره، ويكفي أن نذكر هذه القصة من إدارة الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه: عن زيد بن أسلم عن أبيه ((أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه استعمل مولى له يدعى هنيا على الحمى، فقال: يا هني اضمم جناحك عن المسلمين، واتق دعوة المظلوم؛ فإن دعوة المظلوم مستجابة، وأدخل رب الصريمة ورب الغنيمة، وإياي ونعم ابن عوف ونعم ابن عفان؛ فإنهما إن تهلك ماشيتهما يرجعا إلى نخل وزرع، وإن رب الصريمة ورب الغنيمة إن تهلك ماشيتهما يأتني ببنيه فيقول: يا أمير المؤمنين ، أفتاركهم أنا لا أبا لك؟ فالماء والكلأ أيسر علي من الذهب والورق، وأيم الله إنهم ليرون أني قد ظلمتهم، إنها لبلادهم فقاتلوا عليها في الجاهلية وأسلموا عليها في الإسلام، والذي نفسي بيده لولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله ما حميت عليهم من بلادهم شبرا))(33).
إن السياسة الرائدة هي التي تعمل على توفير الأمل، وتيسيره للقادرين من الفقراء، وتعمل علىت تنمية مصادر الدخل لصغار الملاك؛ لتستغني هؤلاء وأولئك بجهدهم الخاص عن طلب المعونة من الدولة، وتكليفها عبء الإنفاق عليهم من خزانتها، وهذا يظهر من قول عمر: (فالكلأ أيسر علي من الذهب والورق).
• ثالثا: تعليم كل صبي مهنة تناسبه:
فقد ذكر الفقهاء أنه ينبغي للأب أن يؤدب الصبي بالأمور الدينية والدنيوية ويسلمه لمكتب أو ذي حرفة يتعلم منها الكتابة والحرفة.(34)
• رابعا: من حكم فرض الزكاة تشغيل طاقات الفقراء وتهيئة أسباب الاحتراف لهم:
إن الزكاة لم تكن يوما من الأيام عائقة عن العمل، أو حاثة على البطالة والكسل، أو مهيئة لأجواء الخمول والاعتماد على الآخرين، ولم تكن الزكاة تصرف كمسكنات لذوي الحاجة والفقر ليبقوا متعلقين ومتطلعين لأيدي أهل الغنى واليسار طوال أعمارهم.
إن الزكاة جاءت لتنظم الثروة، وإغناء الناس عن المسألة، وفتح أبواب الرزق أمام الجميع والمنافسة الشريفة على الكسب.
لقد جاء تنظيم الزكاة بأن تؤخذ من أغنياء كل بلدة فتصرف على فقرائها، ولا تنقل إلى غيرهم، حتى تسد حاجتهم، وجاء نظامها بصرف زكاة الأموال الظاهرة إلى بيت المال ليقوم بتوزيعها على المستحقين لها؛ ضمانا لعدالة التوزيع؛ وحفظا لماء وجه الفقير، وقطعا للطريق على المحتالين.
وجاء تنظيم الزكاة لتكون مشغلة لجميع أفراد المجتمع، فتعدهم لسوق العمل وتحفزهم عليه، وتهيئ لهم بيئته بما يدفع لهم من مساعدات تخص حرفهم بالغة ما بلغت كما رجح ذلك جمع من الفقهاء.
ذكر النووي رحمه الله معنى الكفاية قال: ((فرع: قال أصحابنا: والمعتبر في قولنا يقع موقعا من كفايته المطعم والملبس والمسكن وسائر ما لابد منه على ما يليق بحاله، بغير إسراف ولا إقتار لنفس الشخص ولمن هو في نفقته))(35).
وفصل في موضع آخر في فرع بعد أن ذكر أن أصحابهم العراقيين وكثيرا، من الخراسانيين قالوا: يعطيان –أي الفقير والمسكين- ما يخرجهما إلى الغني، وهو ما تحصل به الكفاية على الدوام، قال: وهذا نص الشافعي، واحتج له بحديث قبيصة بن المخارق الذي رواه مسلم. والشاهد منه: أن الرسول صلى الله أجاز له المسألة حتى يصيب ما يسد حاجته فدل على ما ذكرناه.
ثم ذكر تفصيلات الأصحاب: قال أصحابنا: فإن كان عادته الاحتراف أعطي ما يشتري به حرفته، أو آلات حرفته، قلت قيمة ذلك أم كثرت، ويكون قدره بحيث يحصل من ربحه ما يفي بكفايته غالبا.
ويختلف باختلاف الحرف، والبلاد، والأزمان، والأشخاص. وقرب جماعة من أصحابنا ذلك فقالوا: من يبيع البقل يعطي خمسة دراهم أو عشرة، ومن حرفته بيع الجوهر، يعطي عشرة آلاف درهم مثلا؛ إذا لم يتأت له الكفاية بأقل منها، ومن كان تاجرا أو خبازا أو عطارا أو صرافا أعطي بنسبة ذلك، ومن كان خياطا أو نجارا أو قصارا أو قصابا أو غيرهم من أهل الصناع أعطي ما يشتري به الآلات التي تصلح لمثله، وإن كان من الضياع يعطى ما يشتري به ضيعة، أو حصة في ضيعة تكفيه غلتها على الدوام. قال أصحابنا: فإن لم يكن محترفا ولا يحسن صنعة أصلا، ولا تجارة ولا شيئا من أنواع المكاسب أعطي كفاية العمل الغالب في بلاده، ولا يتقدر بكفاية سنة. قال المتولي وغيره: يعطى ما يشتري به عقارا يستغل منه كفايته. قال الرافعي: ومنهم من يشعر كلامه بأنه يعطى ما ينفق عينه في مدة حياته، والصحيح بل الصواب هو الأول.
هذا الذي ذكرناه من أعطائه كفاية عمره هو المذهب الصحيح الذي قطع به العراقيون، وكثيرون من الخراسانيين، ونص عليه الشافعي. وذكر البغوي والغزالي وغيرهما من الخراسانيين أنه يعطى كفاية سنة ولا يزاد؛ لأن الزكاة تتكرر كل سنة، فيحصل كفايته منها سنة سنة، وبهذا قطع أبو العباس ابن القاص في المفتاح. والصحيح الأول وهو كفايته العمر.
قال الشيخ نصر المقدسي: هو قول عامة أصحابنا، قال: وهو المذهب. أهـ(36). وقال بعض العلماء: ((إن من تمام الكفاية ما يأخذه الفقير ليتزوج به إذا لم تكن له زوجة واحتاج للنكاح))(37).
وسئل شيخ الإسلام عما ذكروه في حد المسكين من أنه (من قدر على مال أو كسب يقع موقعا من كفايته ولا يكفيه) هل المراد عدم الكفاية في ذلك اليوم؟ أو كل السنة؟ أو العمر الغالب؟، فإن قلتم بالأخير كما صححه النووي –رحمه الله تعالى- فما حده؟ وما حد الغنى الذي لا يجوز معه أخذ الزكاة؟، فإذا كان رجل عمره عشرون سنة مثلا ولم يكن كاسبا، وعنده عشرة آلاف مثلا، ومؤنته كل سنة ألف مثلا، فهل يجوز له أخذ الزكاة أو لا؟، فإن قلتم يجوز فما الحد الذي يجوز أخذه، وكم يعطي الدافع له والحالة هذه؟. فأجاب بقوله: ((من تحقق بالفقر أو المسكنة لا يخلو إما أن يكون يحسن حرفة، أو تجارة، أو لا يحسن شيئا من ذلك، ومن لا يحسن شيئا إما أن يكون معه شيء أو لا، فأما من له حرفة فإنه يعطى ثمن آلات حرفته التي يقوم دخلها بخرجه على الدوام، فإن لم يف دخلها بخرجه كملنا له الزائد بأن نضم إلى ثمن تلك الآلات شراء محل نعطيه له يقوم دخله مع دخل الحرفة بكفايته وكفاية ممونه بحسب اللائق به وبهم على الدوام أيضا.
وأما من يحسن التجارة فإنه يعطى رأس مال يكفيه ربحه، بأن يكون ذلك الربح الحاصل منه بحسب العادة بقدر ما يحتاجه هو وممونه كما ذكر، ولا يتقيد ذلك بحد، وذكرهم إعطاء البقال والجوهري والصيرفي وغيرهم أشياء مخصوصة ذكروها وحددوها إنما هو لأن ذلك كان مناسبا لعرف زمنهم، كما أشاروا إلى ذلك بقولهم عقب تلك المقادير: تقريبا.
وأما من معه مال وهو لا يكفيه العمر الغالب بأن يكون لو وزعه على ما بقي من عمره باعتبار الغالب الذي يعيش إليه أكثر الناس –وهو ما بين الستين والسبعين- لا يكفيه بل ينقص عن ذلك أو ليس معه شيء ولا يحسن كل منهما حرفة ولا تجارة فإنه يعطى كفاية العمر الغالب، بأن يشترى له أرض أو عقار يكفيه –كما مر- غلتها على الدوام. ففي المثال المذكور في السؤال يضم إلى العشرة الآلاف التي معه قدر بحيث لو اشترى بهما محل كفاه دخله على الدوام، ومحله كما علم مما تقرر ما إذا كانت تلك العشرة الآلاف يفي ربحها بخرجه إن كان يحسن تجارة، أو لا يشتري بها ما يكفيه غلته إن لم يحسن شيئا، ففي هاتين الصورتين يضم إليها ما يشتري به ما تكفيه غلته، أما إذا كانت تلك العشرة الآلاف يمكن أن يشتري بها ما تكفيه غلته، أو يمكنه أن يتجر فيها بما يفي ربحه بخرجه فلا يعطى شيئا من الزكاة؛ لأنه الآن غني. والحاصل أن نعتبر إنفاق عين المال الذي باليد إلا في صورة واحدة، وهي أن يكون معه مال ولا يحسن فيه تجارة ولا كسبا ولو أنفقه بقية عمره لم يكفه الكفاية السابقة فهذا مسكين، فيعطى شيئا يضم إلى ذلك المال ويشترى له به ما تكفيه غلته.
وأما ما عدا هذه الصورة، فمن له حرفة أو تجارة ولا يكفيه دخلها فإنه يكمل له بأن يشتري له ما يضم ربحه إلى ربح حرفته أو تجارته بحيث يكفيه.
هذا حاصل المعتمد الذي يتعين الاعتناء بفهمه وتحريره في هذه المسألة؛ فإنه قد كثر فيها اختلاف أنظار الأئمة فيها، وتغليظ بعضهم لبعض في بعض تفاصيلها. .... ويندفع بما تقرر ما أشار إليه بعض الأئمة من أن إعطاء العمر الغالب يلزم عليه حرمان أكثر المستحقين؛ إذ الغالب أنه لا يوجد من الزكاة ما يكفي مستحقيها العمر الغالب، ووجه اندفاع هذا ما علمت أن أحدا من الفقراء والمساكين لا يعطى حيث اتسع المال نقدا!، وإنما يشتري له به ما يفي دخله بخرجه، فإن قل المال أعطي كل ما تيسر له)(38).
عوائق التأهيل المعاصرة:
إن من أسباب انتشار البطالة والتقاعس عن العمل والاحتراف عادات اجتماعية متوارثة، وتقاليد غربية وافدة ضغطت على مفاهيمنا، وعقيدتنا، وأمتنا من حيث يعلمون أو لا يشعرون، شكلت عوائق كبيرة في طريق التأهيل، منها:
1. الأنظمة المقيدة للعمل والاكتساب، ومن ذلك كثرة الشروط اللازمة لمزاولة المهنة.
2. احتقار المهن وازدراء أصحابها، والإعلاء من شأن الوظائف، وهذه النظرة الدونية للمهن والحرف تمارس على جميع الطبقات!، وتغرس في النفوس منذ الصغر!، وإن ادعى المثقفون والغير تعظيم أصحاب المهن وتكريمهم فهذا لا يتعدى المجالس الرسمية فقط.
3. التشجيع على الإسراف والإغراق في الكماليات، وممارسة الضغوط من خلال الإعلام والدعايات التجارية المتكاثرة، والممارسات في البيوت والقصور والولائم، مع كثرة الترفيه واللهو والإعلانات المرغبة فيطه، حيث يجد الفقير حرجا وعنتا من أهله وأولاده لأجل تحصيل هذه الكماليات!.
4. إغلاق كثير من المصالح العامة أبواب الرزق على محدودي الدخل، بوضع الشروط والضوابط التي لا تنطبق إلا على الأغنياء، أو كبار التجار.
5. الاكتفاء بالصور التقليدية المتوارثة في توزيع الزكاة على هيئة أقراص مسكنة إلى حين انتهائها ليعود الفقير يمد يده مرة أخرى يستجدي أهل اليسار أو من يقوم بجمعها من المحسنين!.
6. الاكتفاء بالتعليم النظري في مدارسنا، والبعد من ممارسة التطبيقات العملية، إما لعدم القناعة بها، أو لقلة المتخصصين، أو مسايرة للقانون الغربي بعدم تعليم الأطفال المهن.
خطوات تأهيل المستفيد:
• عقد دورات تأهيلية وتدريبية وفنية مجانية، وتعريف المستفيد بطاقاته وقدراته وأنها ثروة لا تعوض، تحت عنوان (اكتشف نفسك).
• فتح آفاق العمل أمام الفقراء بإشاعة الفرص المتاحة للعمل والحرف.
• تعليمه فضل الرزق الحلال وبركته، تربيته على القناعة والصبر والأمانة، وتعريفه بالغنى الحقيقي (الغنى غنى النفس).
• غرس شرف المهن، ومذلة المسألة في نفسه.
• زرع القناعة بالبدائل عن العمل الحكومي والشركات الخاصة.
لعل هذه مقدمات ضرورية يقنع بها المنخرط في سلك التأهيل قبل أن يمارس التدريب على المهنة؛ لأن بناء القناعات يكون أولا، ثم يتلوها البرامج والأنشطة، فما لم نبنا لقناعات فإننا قد نخسر كثيرا من المتدربين.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا مجمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
د. يحيى بن إبراهيم اليحيى المدينة النبوية
مصادر ومراجع:
1. من سورة البقرة، الآية: (271).
2. تفسير السعدي ص118.
3. أخرجه البخاري (ح1423)، ومسلم (ح1031).
4. التعازي والمراثي للمبرد ص79، تهذيب الكمال (10/507).
5. أخرجه مسلم (ح1044).
6. أخرجه الإمام أحمد (3/208)، والترمذي (ح2325).
7. كتاب الأموال لابن سلام، ص488.
8. كتاب الأموال لابن سلام، ص488.
9. كتاب الأموال لابن سلام، ص489.
10. مشكلة الفقر وكيف عالجها الإسلام للقرضاوي، ص55.
11. أخرجه البخاري (ح1471)، ومسلم (ح1042).
12. إصلاح المال لابن أبي الدنيا، ص72.
13. إصلاح المال لابن أبي الدنيا، ص75.
14. إصلاح المال لابن أبي الدنيا، ص74.
15. إصلاح المال لابن أبي الدنيا، ص76.
16. إصلاح المال لابن أبي الدنيا، ص77.
17. إصلاح المال لابن أبي الدنيا، ص77.
18. إصلاح المال لابن أبي الدنيا، ص88.
19. إصلاح المال لابن أبي الدنيا، ص56.
20. أخرجه الترمذي (ح1832)، والحاكم (4/130).
21. إصلاح المال لابن أبي الدنيا، ص64.
22. إصلاح المال لابن أبي الدنيا، ص54.
23. مسند الإمام أحمد (7/302).
24. أخرجه البخاري في الأدب المفرد، برقم 471.
25. إصلاح المال لابن أبي الدنيا، ص101.
26. إصلاح المال لابن أبي الدنيا، ص111.
27. جامع البيان للطبري (7/565).
28. أخرجه البخاري (ح2402)، ومسلم (ح1559).
29. الجامع الصحيح (3/121)، باب من رد أمر السفيه والضعيف العقل... الخ.
30. الحلس هو كساء يلي ظهر البعير تحت القتب. النهاية (1/423).
31. القعب هو قد حالي الصغر، يروي الرجل. النهاية (1/181).
32. أخرجه الإمام أحمد (19/183)، وأبو داود (ح1641).
33. أخرجه البخاري (ح3059).
34. مغني المحتاج (5/271).
35. المجموع (6/191).
36. المجموع (6/193- 194).
37. حاشية الروض (3/311).
38. الفتاوى الكبرى الفقهية لابن حجر الهيتمي (4/80- 81).
,شارك المنشور مع أصدقائك
ادرج تعليق
الرجاء تصحيح الأخطاء التالية :
{{ error }}
التعليقات (0)