إستمع إلى المقال صوتياً
وما أعجب
لغتنا العربية التي جعلت الفقر بمفهوم العوز والحاجة مشتقًا من كسر الفقار، وهي
عظام سلسلة الظهر وكأن الفقير يعجز في كل شؤون حياته. بيد أن الواقع يخبرنا أن تأثير
الفقر يتعدى الفقير إلى ما حوله ومن حوله، تاركًا بصمته السوداء على جميع العلاقات
الإنسانية، سواء تلك الطبيعية كعلاقة الرجل مع زوجه وأبنائه، أو الاجتماعية
كعلاقات الجيرة والزمالة وغيرها.
يبدأ
تأثير الفقر مبكرًا على الأطفال، الذين يشبون في أسر معدومة يتجاهل المجتمع حقوقها
في الدعم والرعاية، أو لا ينتبه المحيطون إلى لزوم دعمها النفسي والمادي. يقول ا.د
عبد الله بن أحمد القرني في ورقة عمل ألقاها في ملتقى توعية وتأهيل الفقير: "
أما عامل الفقر فهو عامل كبير في انحراف الولد النفسي، ويقوى جانب هذا الانحراف
فيه حين يفتح عينيه ويرى أبيه في ضائقة مالية، وأسرته في بؤس وحرمان، ويزداد الأمر
سوءًا حين يرى بعض أقربائه أو أبناء جيرانه أو رفاقه في الدراسة وهم في أحسن حال
وأبهى زينة وأكمل نعمة، وهو كئيب حزين لا يكاد يجد اللقمة التي تشبعه أو الثوب
الذي يستره، فولد هذه حاله ماذا تنتظر منه أن يكون نفسيًا؟".
وانطلاقًا
من هذه الحالة النفسية يبدأ الفقير في التعامل مع الحياة من حوله بنظرة تشاؤمية
وروح محبطة، فيفقد الثقة في ذاته وقدراته، ويعتقد في عجزه عن تخطي تحديات الواقع
وأزماته، مما يحول دون إشباع رغباته وتوفير حاجاته.
ولأن
الإحباط أحد مصادر العنف المؤكدة، فلا عجب أن يكون إيذاء النفس أو الغير سلوكًا
مألوفًا في البيئات التي يسودها الفقر وتنتشر فيها الفاقة.
إن العنف
–هنا –يحمل تعريفًا أشمل من مجرد الجريمة المنظمة وإنما ينسحب إلى كل أشكال
الإيذاء اللفظي والبدني وتخريب الممتلكات الخاصة والعامة، وهذا يلاحظ بوضوح في
مجتمعات لا يشعر فيها الفقراء بالانتماء إذ تستأثر قلة قليلة بالثروات والخيرات
تاركين مشاعر الحقد والعداوة تترعرع في نفوس الآخرين.
يذكر ا.د عبد الله بن أحمد القرني في ورقة العمل
التي سبق الإشارة إليها عن جرائم عصابات المراهقين والمتمردين أنها تمثل
"هروبًا من الواقع وضغوطات الحياة على هذه الشريحة."
وإذا
تحدثنا عن العنف كأحد الأثار السلبية للفقر في العلاقات المجتمعية، لا يمكن أن
نتجاهل العنف الأسري إذ أن الزوجة والأبناء الضحايا الأوائل أو الأقرب لتفريغ
شحنات الإحباط الذي يخلفه الفقر.
ومما
نقله ا.د عبد الله بن أحمد القرني أن الطبيب النفسي "جمال الخطيب" أكدّ
وجود علاقة طردية بين الفقر والعنف الأسري، محذرًا من أن تفكك الأسر يؤدي إلى
اختلال مجتمعيّ واضطرابات.
واتقاء
لشر التأثيرات السلبية للفقر في المجتمع نجد الإسلام قد عني عناية خاصة بهذه
المشكلة، محددًا منطلقين أساسيين للتعامل معها وهما احترام الكرامة الإنسانية
والتكافل الاجتماعي. ويندرج تحت هذين العنوانين تفاصيل كثيرة منها مسؤولية توفير
بيئات عمل ملائمة وإزالة العوائق التي تحول بين المرء واكتساب رزقه، ومنها تأمين
مناخ اقتصادي شرعي لا يضطر فيه الفقير إلى التعاملات المالية المشبوهة.
علاج التأثيرات السلبية للفقر واجب فردي وجماعي يجب أن ينهض به الإنسان في حدود عائلته وأقاربه وجيرانه، وهو واجب جماعي تنهض به الدولة ومؤسساتها ومنظماتها الرسمية والشعبية على السواء.
,شارك المنشور مع أصدقائك
ادرج تعليق
الرجاء تصحيح الأخطاء التالية :
{{ error }}
التعليقات (0)